فصل: تفسير الآيات (18- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (8- 9):

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)}
وقوله سبحانه: {إِنَّا أرسلناك شَاهِداً...} الآية، مَنْ جعل الشاهِدَ مُحَصِّلَ الشهادة من يوم يحصلها، فقوله: {شاهدا} حال واقعة، ومَنْ جعل الشاهد مُؤَدِّي الشهادةَ فهي حال مستقبلة، وهي التي يسميها النحاة المُقَدَّرَةَ، والمعنى: شاهداً على الناس بأعمالهم، وأقوالهم حين بَلَّغْتَ، {وَمُبَشِّراً}: أهلَ الطاعة برحمة اللَّه، {وَنَذِيرًا}: من عذاب اللَّه أهلَ المعصية، ومعنى {وَتُعَزِّرُوهُ} تعظموه وتكبروه؛ قاله ابن عباس، وقرأ ابن عباس وغيره: {وَتُعَزِّزُوهُ} بزاءين من العِزَّةِ، قال الجمهور: الضمير في {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي {وَتُسَبِّحُوهُ} للَّه عز وجل، والبُكْرَةُ: الغُدُوَّ، والأصيل: العَشِيُّ.

.تفسير الآية رقم (10):

{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ}: يريد في بيعة الرضوان، وهي بيعة الشجرة، حين أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الأهبة لقتال قريش، لِمَا بَلَغَهُ قتل عثمانَ بن عفانَ، رسولِهِ إليهم، وذلك قبل أن ينصرفَ من الحُدَيْبِيَّةِ، وكان في ألف وأربعمائة، وبايعهم صلى الله عليه وسلم على الصبر المتناهي في قتال العَدُوّ إلى أقصى الجهد حتى قال سَلَمَةُ بن الأكوع وغيره: بايعنا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم على الموت، وقال عبد اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه: بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أَلاَّ نَفِرّ، والمبايعة في هذه الآية مُفَاعَلَةٌ من البيع؛ لأنَّ اللَّه تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأَنَّ لهم الجنة، ومعنى {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} أَنَّ صفقتهم إنما يمضيها ويمنح الثمن اللَّه تعالى.
* ت *: وهذا تفسير لا يَمَسُّ الآية، ولا بُدَّ، وقال الثعلبيُّ: {إنما يبايعون اللَّه} أي: أخذك البيعة عليهم عقد اللَّه عليهم، انتهى، وهذا تفسير حسن.
وقوله تعالى: {يَدُ الله} قال جمهور المتأولين: اليد بمعنى النعمة، إذْ نعمة اللَّه في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها {فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}: التي مَدُّوها لبيعتك، وقيل: المعنى: قُوَّةُ اللَّه فوقَ قُوَاهُمْ في نصرك.
* ت *: وقال الثعلبيُّ: {يد اللَّه فوق أيديهم} أي: بالوفاء والعهد، وقيل: بالثواب، وقيل: {يد اللَّه}: في المِنَّةِ عليهم {فوق أيديهم}: في الطاعة عند المبايعة، وهذا حَسَنٌ قريب من الأول.
وقوله تعالى: {فَمَن نَّكَثَ} أي: فَمَنْ نقض هذا العهد، فإنما يجني على نفسه ومَنْ أَوفى بما عاهد عليه اللَّهَ فسنؤتيه أجراً عظيماً، وهو الجنة.

.تفسير الآيات (11- 17):

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)}
وقوله سبحانه: {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} قال مجاهد وغيره: هم جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ، ومَنْ كان حول المدينة من الأعراب؛ وذلك أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد المسيرَ إلى مَكَّة عام الحديبية مُعْتَمِراً، استنفر مَنْ حولَ المدينة من الأعراب وأَهلِ البوادي؛ ليخرجوا معه؛ حذراً من قريش، وأحرم بالعمرة، وساق معه الهَدْيَ؛ ليعلمَ الناس أنه لا يريد حرباً، فتثاقل عنه هؤلاء المُخَلَّفُونَ، ورأوا أَنَّهُ يستقبل عدوّاً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة، وهم الأحابيش، ولم يكن تَمَكَّنَ إيمانُ هؤلاءِ المُخَلَّفِينَ، فقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخلَّفُوا وقالوا: لَنْ يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم اللَّه في هذه الآية، وأَعْلَمَ نَبِيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم بقولهم، واعتذارهم قبلَ أَنْ يَصِلَ إليهم، فكان كما أخبر اللَّه سبحانه، فقالوا: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا عَنْكَ فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} وهذا منهم خُبْثٌ وإبطال، لأَنَّهم قالوا ذلك مُصَانَعَةً من غير توبة ولا ندم؛ فلذلك قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} ثم قال تعالى لنبيِّه عليه السلام: {قُلْ}: لَهُمْ {فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} أي: مَنْ يحمي منه أموالكم وأهليكم إنْ أراد بكم فيها سوءاً، وفي مصحف ابن مسعود: إنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً ثم رَدَّ عليهم بقوله: {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} ثم فَسَّرَ لهم العِلَّةَ التي تخلَّفُوا من أجلها بقوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ...} الآية، و{بُوراً} معناه: هلكى فاسدين، والبوار الهلاك، والبور في لغة أَزْد عمان: الفاسد، ثم رجى سبحانه بقوله: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} ثم إنَّ اللَّه سبحانه أَمَرَ نَبِيَّه على ما رُوِيَ بغزو خيبرَ، ووعده بفتحها، وأعلمه أَنَّ المُخَلَّفِينَ إذا رأوا مسيرَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى يهود، وهم عَدُوٌّ مُسْتَضْعَفٌ طلبوا الكونَ معه؛ رغبةً في عَرَضِ الدنيا والغنيمة، فكان كذلك.
وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} معناه: أنْ يغيروا وعده لأهلِ الحُدَيْبِيَّةِ بغنيمة خيبرَ، وقال ابن زيد: كلام اللَّه هو قوله تعالى: {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً}. قال * ع *: وهذا ضعيف؛ لأَنَّ هذه الآية نزلت في غزوة تبوك في آخر عمره صلى الله عليه وسلم وآية هذه السورة نزلت عامَ الحديبية، وأيضاً فقد غَزَتْ جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ بعد هذه المُدَّةِ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعني غزوة الفتح، فتح مَكَّة.
* ت *: قال الثعلبي: وعلى التأويل الأَوَّل عامَّةُ أهل التأويل، وهو أصوب من تأويل ابن زيد.
وقوله: {كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ} يريد وعده قبل باختصاصهم بها، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال قتادة وغيره: هم هوازن وَمَنْ حارب النبيَّ عليه السلام يومَ حُنَيْنٍ، وقال الزُّهْرِيُّ وغيره: هم أهل الرِّدَّةِ وبنو حنيفة باليمامة، وحكى الثعلبيُّ عن رافع بن خديج أَنَّهُ قال: واللَّهِ لقد كُنَّا نقرأ هذه الآية فيما مضى، ولا نعلم مَنْ هم حَتَّى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أَنَّهُمْ هم المراد، وقيل: هم فارس والروم، وقرأ الجمهور: {أَوْ يُسْلِمُونَ} على القطع أي: أو هم يسلمون دونَ حرب، قال ابن العربي: والذين تَعَيَّنَ قتالُهم حتى يسلموا مِنْ غير قبول جزية، هم العرب في أَصَحِّ الأقوال، أوِ المرتدون، فأَمَّا فارس والروم فلا يُقَاتَلونَ إلى أَنْ يسلموا؛ بل إنْ بذلوا الجزية قُبِلَتْ منهم، وهذه الآية إخبار بمغيب؛ فهي من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى من الأحكام.
وقوله: {فَإِن تُطِيعُواْ} أي: فيما تُدعون إليه، وباقي الآية بَيِّنٌ.
ثم ذكر تعالى أهل الأعذار، ورَفَعَ الحرج عنهم، وهو حكم ثابت لهم إلى يوم القيامة، ومع ارتفاع الحَرَج فجائز لهم الغزوُ، وأجرهم فيه مُضَاعَفٌ، وقد غزا ابن أُمِّ مكتوم وكان يُمْسِكُ الرَايةَ في بعض حروب القادسية، وقد خَرَّجَ النسائِيُّ هذا المعنى، وذكر ابنَ أمِّ مكتوم رحمه اللَّه.

.تفسير الآيات (18- 20):

{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)}
وقوله عز وجل: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين...} الآية، تشريف لهم رضي اللَّه عنهم وقد تَقَدَّمَ القولُ في المبالغة ومعناها، وكان سببَ هذه المبايعة أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أراد أَنْ يبعث إلى مَكَّةَ رجلاً يُبَيِّنُ لهم أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد حرباً؛ وإنَّما جاء مُعْتَمِراً، فبعث إليهم خداشِ بن أُمَيَّةَ الخُزَاعِيَّ، وحمله صلى الله عليه وسلم على جَمَلٍ له يقال له: الثعلب، فلما كَلَّمَهُمْ عَقَرُوا الجمل، وأرادوا قتل خداش فمنعته الأحابيش، وبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأراد بَعْثَ عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول اللَّه، إنِّي أخاف قريشاً على نفسي، وليس بِمَكَّةَ من بني عَدِيٍّ أَحَدٌ يحميني، ولكنِ ابعث عثمان؛ فهو أَعُزُّ بِمَكَّةَ مِنِّي، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فذهب، فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي فنزل عن دَابَّتِهِ فحمله عليها، وأجاره حتى بلغ الرسالة، فقالوا له: إنْ شِئْتَ يا عثمانَ أَنْ تطوف بالبيت فَطُفْ به، فقال: ما كنت لأطوفَ حتى يطوفَ به النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنَّ بَنِي سعيد بن العاصي حَبَسُوا عثمانَ على جهة المبرة، فأبطأ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكانتِ الحُدَيْبِيَّةُ من مَكَّةَ على نحو عَشَرَةِ أميال، فصرخ صارخ من عسكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قُتِلَ عثمانُ، فجثا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وقالوا: لا نبرحُ إنْ كان هذا حتى نُنَاجِزَ القوم، ثم دعا الناسَ إلى البيعة فبايعوه صلى الله عليه وسلم ولم يَتَخَلَّفْ عنها إلاَّ الجد بن قيس المنافق، وجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ على يَدِهِ، وقال: هذه يَدٌ لعثمانَ، وهي خير، ثم جاءَ عثمانُ سالماً والشجرة سمرة كانت هنالك ذهبت بعد سنين.
وقوله سبحانه: {فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ} قال الطبريُّ، ومنذر بن سعيد: معناه: من الإيمان وصِحَّتِهِ، والحبِّ في الدين والحِرْصِ فيه، وقرأ الناس: {وَأَثَابَهُمْ} قال هارون: وقد قرأت: {وَآتَاهُمْ} بالتاء بنقطتين، والفتح القريب: خيبر، والمغانم الكثيرة: فتح خيبرَ.
وقوله تعالى: {وَعَدَكُمُ الله...} الآية، مخاطبة للمؤمنين، ووعد بجميع المغانم التي أخذها المسلمون ويأخذونها إلى يوم القيامة؛ قاله مجاهد وغيره.
وقولهُ: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يريد خيبَر، وقال زيد بن أسلم وابنه: المغانم الكثيرة: خيبر، وهذه إشارة إلى البيعة والتَّخَلُّصِ من أمر قريش، وقاله ابن عباس.
وقوله سبحانه: {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} قال قتادة: يريد كَفَّ أَيديهم عن أهل المدينة في مغيب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، {وَلِتَكُونَ ءَايَةً} أي: علامة على نصر المؤمنين، وحكى الثعلبيُّ عن قتادة أَنَّ المعنى: كَفَّ اللَّه غطفان ومَنْ معها حين جاءوا لنصر خيبَر، وقيل: أراد كَفَّ قريشاً.

.تفسير الآيات (21- 26):

{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}
وقوله سبحانه: {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} قال ابن عباس: الإشارة إلى بلاد فارس والروم، وقال قتادة والحسن: الإشارة إلى مَكَّةَ، وهذا قول يَتَّسِقُ معه المعنى ويتأيَّد.
وقوله: {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} معناه: بالقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ لأهلها، أي: قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أَنَّهم لم يقدروا عليها.
* ت *: قوله: وظهر فيها إِلى آخرهِ كلامٌ غير محصل، ولفظ الثعلبيِّ: {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} أي: وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها، قد أحاط اللَّه بها لكم حَتَّى يفتحها عليكم، وقال ابن عباس: علم اللَّه أَنَّه يفتحها لكم، قال مجاهد: هو ما فتحوه حتى اليوم، ثم ذكر بَقِيَّةَ الأقوال، انتهى.
وقوله سبحانه: {وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ} يعني: كفار قريش في تلك السنة {لَوَلَّوُاْ الأدبار ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيِّاً وَلاَ نَصِيراً}.
وقوله: سنة اللَّه أي: كَسُنَّةِ اللَّه، إشارةً إلى وقعة بدر، وقيل: إشارة إلى عادة اللَّه من نصر الأنبياء، ونصب سنة على المصدر.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ...} الآية، رُوِيَ في سببها أَنَّ قريشاً جمعت جماعة من فتيانها، وجعلوهم مع عِكْرِمَةَ بن أبي جهل، وخرجوا يطلبون غرَّةً في عسكر النبيِّ صلى الله عليه وسلم واختلف الناسُ في عدد هؤلاء اختلافاً متفاوتاً؛ فلذلك اختصرته، فلمَّا أَحَسَّ بهم المسلمون بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أَثَرِهِمْ خالدَ بنَ الوليد، وسَمَّاهُ يومئذٍ سَيْفَ اللَّه في جملة من الناس، فَفَرُّوا أمامهم، حَتَّى أدخلوهم بُيُوتَ مَكَّةَ، وأَسَرُوا منهم جملة، فَسِيقُوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَنَّ عليهم وأطلقهم؛ قال الوَاحِدِيُّ: وكان ذلك سَبَبَ الصلح بينهم، انتهى.
وقوله سبحانه: {هُمُ الذين كَفَرُواْ} يعني: أهل مكة {وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} أي: منعوكم من العمرة، وذلك أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى الحديبية في ذي القعدة سنة ست يريد العمرة وتعظيم البيت وخرج معه بمائة بدنة وقيل بسبعين فأجمعت قريش لحربه وغوروا المياه التي تقرب من مكة فجاء صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر الحديبية وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمراً حتى كفى الجيش ثم بعث صلى الله عليه وسلم إليهم عثمان كما تقدم وبعثوا هم رجالاً آخرهم سهيل بن عمرو وبه انعقد الصلح على أن ينصرف صلى الله عليه وسلم ويعتمر من قابل فهذا صدهم إياه وهو مستوعب في السير، {والهدي} معطوف على الضمير في {صدوكم} أي وصدوا الهدي، ومعكوفاً حال، ومعناه: محبوساً، تقول عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وحبس الهدي من قبل المشركين هو بصدهم، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونَظَرِهِمْ في أَمرهم؛ لأجل أَنْ يبلغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ، وهو مَكَّةُ والبَيْتُ، وهذا هو حَبْسُ المسلمين، وذكر تعالى العِلَّةَ في أَنْ صَرَفَ المسلمين، ولم يمكنهم من دخول مَكَّةَ في تلك الوجهة، وهي أَنَّهُ كان بمكة مؤمنون من رجال ونساء خَفِيَ إيمانهم، فَلَوِ استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين؛ قال قتادة: فدفع اللَّه عن المشركين بأولئك المؤمنون، والوَطْءُ هنا: الإهلاك بالسيف وغيره؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرٍ» قال أبو حيَّان: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ} جوابها محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، أي: ما كَفَّ أيديَكم عنهم، انتهى، والمَعَرَّةُ: السوء والمكروه اللاحق؛ مأخوذ من العُرِّ والعُرَّة وهو الجَرَبُ الصَّعْبُ اللاَّزِمُ، واختلف في تعيين هذه المَعَرَّةِ، فقال الطبريُّ: وَحَكَاهُ الثعلبيُّ: هي الكَفَّارة، وقال مُنْذِرٌ: المَعَرَّة: أنْ يعيبهم الكُفَّار، ويقولوا: قتلوا أهل دينهم، وقال بعضُ المفسِّرين: هي المَلاَمُ، والقولُ في ذلك، وتألمَ النفْسِ في باقي الزمان، وهذه أقوالٌ حِسَانٌ، وجواب لولا محذوفٌ، تقديره: لولا هؤلاءِ لدخلتم مكَّةَ، لكن شرَّفْنَا هؤلاءِ المؤمنِينَ بأنْ رَحِمْنَاهُمْ، ودفعنا بسببهم عن مَكَّةَ ليدخل اللَّه، أي: لِيُبَيِّنَ للناظر أنَّ اللَّه يدخُلَ من يشاء في رحمته أو، أي: لِيقعَ دخولهم في رحمة اللَّه ودفعه عنهم.
* ت *: وقال الثَّعْلَبِيُّ: قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يحتمل أنْ يريد بغير علم مِمَّنْ تكلَّم بهذا، والمَعَرَّةُ: المشقة {لِيُدْخِلَ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ} أي: في دين الإِسلام {مَنْ يَشَاءُ}: من أهل مكة قبل أن تدخلوها، انتهى.
وقوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ} أي: لو ذهبوا عن مَكَّةَ؛ تقول: زِلْتُ زيداً عن موضعه إزالة، أي: أذهبته، وليس هذا الفعل من زَالَ يَزُولُ، وقد قيل: هو منه، وقرأ أبو حياةَ وقتادة: {تَزَايَلُوا} بألف، أي: ذهب هؤلاء عن هؤلاء، وقال النَّحَّاس: وقد قيل: إنَّ قوله: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ...} الآية: يريدُ: مَنْ في أصلاب الكافرين مِمَّنْ سيُؤْمِنُ في غابر الدهر، وحكاه الثعلبيُّ والنَّقَّاش عن عليِّ بْنِ أبي طالب رضي اللَّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، والحَمِيَّةُ التي جعلوها هي حَمِيَّةُ أَهل مكة في الصَّدِّ؛ قال الزُّهْرِيُّ: وهي حمية سُهَيْلٍ ومَنْ شَاهَدَ مِنْهُمْ عقدَ الصُّلْحِ، وجعلها سبحانه حَمِيَّةً جاهلية، لأَنَّها كانت منهم بغير حُجَّةٍ، إذ لم يأت صلى الله عليه وسلم مُحِارِباً لهم، وإنما جاء معتمراً معظِّماً لبيت اللَّه، والسكينة: هي الطَّمْأَنِينَةُ إلى أَمْرِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، والثقةُ بوعد اللَّه، والطاعةُ، وزوالُ الأَنَفَةِ التي لحقت عُمَرَ وغيره، {وكَلِمَةُ التَّقْوَى}: قال الجمهور: هي لا إله إلا اللَّه، ورُوِيَ ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي مصحف ابن مسعود: وَكَانُوا أَهْلَهَا وَأَحَقَّ بِهَا والمعنى: كانوا أهلها على الإطلاق في علم اللَّه وسابق قضائه لهم، وروى أبو أمامة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إذَا نَادَى المُنَادِي فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، واسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ، فَمَنْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ فَلْيَتَحَيَّنِ المُنَادِيَ، فَإذَا كَبَّرَ كَبَّرَ، وَإذَا تَشَهَّدَ تَشَهَّدَ، وَإذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، وَإذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، قَالَ: حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الصادِقَةِ المُسْتَجَابِ لَهَا، دَعُوَةِ الحَقِّ وَكَلِمَةِ التقوى، أَحْيِنَا عَلَيْهَا، وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا، وَابْعَثْنَا عَلَيْهَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَاً، ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ حَاجَتَهُ» رواه الحاكم في المُسْتَدْرَكِ، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من السِّلاَح.
فقد بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث معنى {كلمة التقوى} على نحو ما فسرَ به الجمهور، والصحيحِ أنه يعوض عن الحَيْعَلَةِ الحَوْقَلَةُ؛ ففي صحيح مسلم: «ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَلاَةِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ» الحديث، انتهى.
وقوله تعالى: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية؛ فيُرْوَى أَنَّهُ لما انعقد الصلحُ أَمِنَ الناسُ في تلك المُدَّةِ الحربَ والفتنةَ، وامتزجوا وعَلَتْ دعوةُ الإسلام، وانقاد إلى الإسلام كُلُّ مَنْ له فهم، وزاد عدد الإسلام في تلك المدة أَضعافَ ما كان قبلَ ذلك؛ قال * ع *: ويقتضى ذلك أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، كان في عام الحديبيةِ في أَرْبَعَ عَشْرَةَ مائة، ثم سار إلى مَكَّةَ بعد ذلك بعامين في عَشَرَةِ آلاف فارس صلى الله عليه وسلم.
* ت *: المعروف عَشَرَةُ آلاف، وقوله فارس ما أَظُنُّهُ يَصِحُّ فتأمله في كتب السيرة.